جاء نشوء الصحافة وتطورها مرتبطاً بالتطور الثقافي للحياة الإجتماعية والسياسية في السودان ، حيث عرفت الصحف المحلية منذ فترة طويلة ، فبعد منشورات الإمام المهدي ، ودخول الإستعمار تأسست جريدة السودان ، ثم رائد السودان ، وحضارة السودان وصولاً إلى جريدة النهضة السودانية بواسطة الأستاذ محمد عباس أبو الريش ، ثم جاءت بعد ذلك جريدة الفجر ثم جريدة النيل ، وهكذا تباعا جاءت الصحف في السودان في فترات متفاوتة ، الي ان وصل عددها الكلي الان الي حوالي 57 صحيفة ، موزعة مابين سياسية ، رياضية ، اجتماعية ، تسلية ، واعلانية ، وبالتالي كان من البديهي ان يصاحب هذا الانتاج الكبير للصحف في السودان تطورا في طرق واساليب التوزيع ، فبعد ان كان التوزيع والبيع في ارجاء العاصمة والولايات من خلال مكتبات محدودة ، حيث تتولي بيع الصحف والمجلات للقراء ، جاءت فكرة الاستعانة بأشخاص كموزعيين متجولين ( سريحة ) ، او الاستعانة ببعض الطلاب للقيام بهذه المهمة خلال فترة الاجازة المدرسية ، حيث يقومون بتوزيع الصحف وبيعها راجلين او من خلال الدراجات الهوائية او النارية ، وذلك لأن اي صحيفة تعتبر منتجاً عمره الاستهلاكي عدة ساعات ، ويجب توزيعها في ظرف سويعات ، بل إن هذا الهدف يتعدى هذا المفهوم لتجعل الهدف وصول المطبوعة إلى القارئ في اقل وقت ممكن بعد طباعتها مباشرة .
ولكن
البحث عن قراء مهمة باتت في غاية الصعوبة في السودان ، وخصوصا مع موجة
الغلاء التي ضربت السودانيين في مقتل كما يقول المثل ، بالاضافة الي خطر
التكنولوجيا وغزو الانترنت ، وان كان هذا بقدر اخف ، فهل صناعة الصحف
وشركات التوزيع قادرة علي مجابهة كل تلك المخاطر؟
وها هو
السيد آرن والن رئيس «هولمن بيبر» في السويد ، وهي احدى شركات الانتاج
الرائدة في مجال طباعة الصحف في اوروبا ، يعرض احصاءات ترسم صورة قاتمة عن
وضع الصحف في شمال اميركا وبلدان غرب اوروبا ، وقال ان الاحصاءات تؤكد
تراجع نسبة توزيع الصحف تدريجيا في هذه المناطق منذ عام 1990، إلا انه شدد
على ان الصحافة المكتوبة قادرة على البقاء في حلقة المنافسة ، اذا ابقت
تركيزها على القارئ والمعلن وعلى ما تتقنه بشكل افضل ، اذا كان هذا هو
السيناريو المرسوم الان للصحافة ونسبة توزيعها في دول العالم الاول كما
يقولون ، فكيف بعالمنا الثالث هذا ، هل لا تزال صحافتنا السودانية تقدم
خدمات تجبر القارئ علي دفع ثمن نسخة من الصحبفة ؟؟
كما
ان هناك مشكلة أخرى ، تتمثل فى ارتفاع نسبة الأمية ، والتى تحد من نسبة
توزيع الصحف وانتشارها ، إذ أن نسبة توزيع الصحف في العالم العربي تصل إلي
30 نسخة لكل ألف ساكن فى فترة السبعينات من القرن الماضى ، بينما فى عام
2006 وصلت إلى 10 نسخ لكل ألف ، وفى دول الخليج لا تزيد عن نسخة لكل عشرة
آلاف شخص ، بينما تصل في أوربا إلي 264 لكل ألف شخص مقيم ، وهذا يجعل توزيع
الصحافة العربية في مرتبة أقل بكثير جدا من المتوسط العالمي الذي يصل إلي
136 صحيفة لكل ألف ساكن ، فى نفس الوقت هناك ضآلة واضحة فى توزيع الصحافة
اليومية العربية حيث تصل فى العالم العربى إلي 5 ملايين نسخة ، بينما تصل
في أوربا إلي 167 مليون نسخة حسب إحصاء عام 2006 ، لنأتي من اروبا الي
السودان ، فاذا عرفنا ان مجمل الكمية المطبوعة في السودان من الصحف
السياسية والاجتماعية والرياضية وصحف الاعلانات والتسلية لا تتخطى حاجز الـ
400 الف نسخة في اليوم ، فبعملية حسابية بسيطة ، عندما نقارن كمية الصحف
المطبوعة الي عدد سكان السودان ، تصبح النسبة 0.01 وهي نسبة قراء الصحف في
السودان ، انه لامر مخجل للغاية ، ولكن هل لنا بالتفائل ؟ ربما .
لذا علينا ان نعود وان نتعامل مع ارقامنا هذه بكل واقعية ، ولنترك التحديق في نصف كوبنا الفارغ ، ولنري كيف تتم عملية توزيع هذه الـ 400 الف نسخة ، فاذا علمنا ان هنالك اكثر من 13 شركة توزيع للمطبوعات الصحفية ، وهي تقوم بتوزع حوالي 70% من كمية الإنتاج من المطبوعات الصحفية في اليوم ، اضافة الى حوالي 1500 بائع متجول ، وتمول هذه الشبكة الثنائية من قبل 8 مراكز توزيع بالعاصمة ، نري انه ومع تأسيس هذه الشركات المتخصصة في التوزيع ، شهد السودان أول شكل منظم من أشكال توزيع الصحف ، بعد ان كانت طرق التوزيع غير منظمة وكانت من خلال مكتبات ومنافذ محددة .
ولكن
بعد تعاقد المؤسسات الصحافية مع متعهدين يقومون بتوزيع مطبوعاتهم ، سجلت
شركات التوزيع قفزة وتطوراً في أسلوب توزيع الصحف ، بما تمتلكها من كوادر
بشرية و موظفين وموزعين ، كما تملك شركات التوزيع من الآليات أسطولا ضخما
من السيارات وشبكة متكاملة من الفروع تغطي كافة أرجاء السودان ، من نقاط
البيع والتوزيع ، لإيصال الاف النسخ من المطبوعات المختلفة للقراء
والمشتركين يوميا ، حيث يتم هذا في فترة وجيزة منذ الساعة الثانية عشر ليلا
وحتى ساعات الصباح الأولى ، ليتمكن القارئ في جميع أنحاء السودان من
الحصول على ما يريد من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية والكتب .
وبرز اسم شركة قماري للتوزيع كواحد من أشهر الأسماء التي دخلت سوق توزيع الصحف والمجلات ، بما تمتلك من أسطول ضخم من السيارات المتخصصةً في توزيع وتسويق المطبوعات الإعلامية ، وشبكات من الفروع تغطي كافة أنحاء السودان ، وارتباطها مع شركات ووكلاء توزيع في كافة الولايات ، ولم يقتصر الأمر في رحلة توزيع الصحف خلال الفترة الماضية على أسطول التوزيع ، بل ادخلت التقنية الحديثة في توجيه أساطيل التوزيع من خلال المتابعة الميدانية لسوق المطبوعات الموزعة ، وإجراء عمليات استطلاع للرأي ، وتوصيل الاف النسخ إلى القراء والمشتركين في أوقات قياسية .
وللفائدة
العامة ذهبنا الي الاستاذ يحي حامد مدير عام شركة قماري للتوزيع وعضو
المجلس القومي للصحافة والمطبوعات وعضو اتحاد الموزعين العرب ، ليعرفنا عن
قرب علي عملية التوزيع وطبيعة العمل ، فقال لنا: ( في البدء نجد ان العملية
الصحفية تتكون من ثلاثة اضلاع هي التحرير والطباعة ثم التوزيع ، وعن علاقة
شركة التوزيع بالصحيفة التي تعاقدنا معها ، اننا نقوم بأستلام الصحيفة من
المطبعة بواسطة موظفينا اللذين يرابطون في المطبعة ، حيث نستلم الكمية
المطبوعة من مندوب الصحيفة ، بعد ذلك نقوم بتقسيم هذه الكمية المستلمة
وتوزيعها الي كميتين ، الكمية الاولي توزع في العاصمة والكمية الثانية توزع
في الولايات ، وغالبا ما تكون نسبة كمية الولايات 30 % من الكمية الكلية ،
وباقي الـ 70 % توزع في العاصمة ، وهذا الامر ينطبق علي جميع الصحف عندنا .
واضاف استاذ يحيي ( في العاصمة لدينا وكلاء ، نسلمهم كمياتهم من كل الصحف التي تعهدنا بتوزيعها ، وغالبا ما يكون ذلك في الساعات الاولى من الصباح الباكر، اي نحو الساعة الرابعة فجرا ، وللأمانة نعترف ان طريقة التوزيع عبر الوكلاء تعتبر طريقة تقليدية في التوزيع ، ولكن نسبة الى ارتفاع تكاليف النقل وضعف العائد من مبيعات الصحف ، حيث لم يتركا فرصة للاتجاه نحو سياسة التوزيع المباشر للمكتبات بدلاً من التعامل عبر الوكلاء ، بجانب أسباب فنية مرتبطة بعمل أصحاب المكتبات تعوق عملية التوزيع المباشر ) .
وفيما
يتعلق بكمية الولايات قال الاستاذ يحيي ( نحن لدينا اكثر من خمسة خطوط
للتوزيع ، اولها خط مدني ، حيث تقوم العربة المحملة بالصحف من الخرطوم في
حوالي الساعة الخامسة صباحا ، وتبدا في التوزيع من منطقة جياد مرورا بكل
المناطق التي علي طول الطريق ، سوى اكانت شرق البحر او غربه ، الى ان تصل
مدني في حوالي الساعة السابعة صباحا ، ومن مدني نقوم بشحن تلك الصحف عبر
الحافلات المغادرة الي سنار وسنجة والدمازين ، حيث تصلهم الصحف علي حسب
مسافة كل منطقة ، مثلا تصل الي سنار في العاشرة والنصف صباحا ، وتصل سنجة
في الحادية عشر والنصف ، اما صحف الدمازين فتصلها حوالي الساعة الثانية
والنصف ظهرا ، وكذلك لدينا خط بورتسودان وهو يشمل شندي وعطبرة وسواكن وصولا
الي بورتسودان ، كما لدينا خط كسلا ، ويشمل القضارف ، خشم القربة ، حلفا
الجديدة و كسلا ، ولدينا كذلك خط الغرب وهو يعتبر اطول خط ، ويشمل الدويم ،
كنانة ، ربك ، كوستي ، تندلتي ، ام روابة ، الرهد ، الابيض ، النهود ،
كادقلي ، الدلنج . كما لدينا خط دنقلا وكريمة وكرمة ، اما المدن البعيدة
مثل نيالا ، الفاشر ، الجنينة ، واو ، جوبا يتم ترحيلها عبر الطيران ) .
وعن المشاكل التي تعاني منها شركات التوزيع قال الاستاذ يحي ( هنالك الكثير من المشاكل التي تواجه عملية التوزيع ، ولكن نذكر منها مشكلة ايجار الصحف والتداول المتعدد للصحيفة الواحدة ، فهي مشكلة كبيرة تسبب اضرار جمة لشركة التوزيع والصحبفة علي حد سوا ، وهو من العيوب الاخلاقية وبها تضيع حقوق الصحف ويضيع ملامح التقدير الحقيقي لمبيعات للصحيفة ) .
وفي
ختام حديثه لنا قال الاستاذ يحيي ( عبركم اود ان اوجه رسالة شكر وعرفان
الي كل موظفينا وعمالنا الذين يسهرون الليالي ، ويجتهدون كثيرا حتي تصل
الصحف الي مناطقها في اسرع وقت ممكن ، وسوف نستمر في دعمهم و مكافئتهم
ماديا ومعنويا علي الخدمات الجليلة التي ظلوا يقدموها لنا ).
تمويل الصحف :
اذا
عرفنا ان الحكومة السودانية لا تقدم اي دعم مباشر للصحف التي تصدر عن جهات
غير حكومية وكذلك الدعم الغير مباشر لا وجود له ، اذ لا تعامل الصحف برسوم
مخفضة في مجال الاتصالات الهاتفية والاشتراك في شبكات المعلومات الدولية
والنقل الجوي وتخفيض الرسوم الجمركية ، وتستورد الصحف كل
مدخلات انتاجها من ورق وحبر وافلام واجهزة الجمع وماكينات الطباعة من
الخارج ، اذ لم تقم حتي الان اية صناعة سودانية لانتاج مدخلات صناعة الصحف ،
وليس من المتوقع قيامها في المستقبل القريب.
تعتمد الصحف
السودانية غير الحكومية في مقابلة تكلفة اصدارها علي عائدات الاعلان
والتوزيع ، وتتراوح نسبة عائدات الاعلان مابين 5 ـــ 35% من قيمة التكلفة
الكلية لانتاج الصحيفة ، وهو عائد ضعيف بالمقارنة مع الصحف العربية
والدولية ، اما العائد من التوزيع فيتوقف علي عدد النسخ
المطبوعة من كل صحيفة والتي تتراوح ما بين 6 الف نسخة الي 30 الف نسخة
يوميا في احسن الاحوال ، وتتراوح تكلفة طباعة النسخة الواحدة ما بين 190 ــ
260 جنيه سوداني حسب الحجم والنوع والكمية مع العم ان شركات التوزيع تأخذ
نسبة من سعر البيع ، كما هناك بعض المرتجع الذي يعاد الي الصحيفة.
وفيما
يتعلق بمشكلة التوزيع بولاية الخرطوم أوضح الاستاذ بشارة ادم محمد مدير
توزيع العاصمة بشركة قماري للتوزيع ، ان هنالك الكثير من المشاكل التي
تعترض عملية التوزيع ، منها تأخير عملية طباعة الصحف في المطابع ، وهذا
الامر له اسباب عديدة اول هذه الاسباب مردود الي الصحيفة نفسها ، متمثلة في
وصولها متأخرة الي المطبعة ، والسبب الثاني هو اعطال المطابع المتكررة ،
وايضا هنالك اسباب راجعة للوكيل نفسه ، اذ لا يقوم بتوزيع الصحف علي
المكتبات بطريقة مدروسة ، اي عليه رصد مرتجع المكتبات ، لكي يقوم بتوزيع
الصحف علي اساسها ، فيجب عليه زيادة الكمية للمكتبة التي لها راجع اقل ،
وتقليل الكمية للمكتبة التي راجعها كثير) ، واضاف
ايضا ( ان الزيادة الاخيرة في اسعار الصحف قللت من مبيعات وتوزيع الصحف
بنسبة 30 % ، وكذلك زيادة عدد الصحف اثر علي النسبة العامة للتوزيع ، ونجد
ايضا ان غلاء المعيشة والظروف الاقتصادية العامة في البلاد ادت ايضا الي
احجام القراء من شراء الصحف ، فالشخص الذي يمتلك واجد جنيه في هذه الايام
يفضل ان يشتري بها رغيف لاولاده بدلا من شراء صحيفة ) ، وسالنا
الاستاذ بشارة كذلك عن سبب توقف منافذ الاستاندات فقال ( الفائدة من
مبيعات الاستاندات لا يغطي تكلفة منصرفاتها من ايجار عربات ومحروقات وايجار
موزعين ، لذلك اوقفناها ).
وكذلك تحدث لنا
الاستاذ ابراهيم كوة مدير توزيع الولايات بشركة قماري عن وضع التوزيع في
الولايات فقال ( توزيع الصحف في الولايات ضعيف كما هو معروف للكل ، ولكن
نجد ان التغطيات الخاصة بولاية معينة في الصحف تزيد من نسبة التوزيع في تلك
الولاية ، بالاضافة الي الاحداث العامة سواء اكانت سياسية او رياضية ) ، واردف
الاستاذ كوة قائلا (ان وصول الصحف مبكرا في الولايات تزيد من نسبة
مبيعاتها ، وذلك لان اغلب الموظفين والعمال والطلبة سوف يتمكنون من الحصول
علي نسخهم من تلك الصحف ، قبل رحلة الاياب الي الديار ، ولكن عندما تصل
الصحيفة في وقت متأخر اي بعد رجوع اغلب الموظفين الي بيوتهم لاتجد من
يشتريها ، وبالتالي تقل نسبة المبيعات ، والحمد لله نحن في قماري وبفضل
الاسطول من الحافلات التي نمتلكها اصبحنا نصل الي جميع المدن في اوقات
قياسية ومناسبة جدا ).
ولما كان الحديث دائر عن اصحاب المكتبات
، حملنا اسئلتنا وذهبنا بها الي صاحب مكتبة القندول الثقافية بالسوق
العربي فماذا قال ( التوزيع عموما ونسبة مبيعات الصحف هذه الايام في تدني
واضح ، ولكن الاحداث الرياضية ، وخصوصا فوز الهلال الاخير انعش مبيعات
الصحف الرياضية ، كما ان حادثة قصف العربة السوناتا بطائرتين مجهولتين
بولاية البحر الاحمر ، حركت ركود سوق الصحف السياسية ) .
اذا
هذا هو الوضع العام ، صحافة راكدة دائما ، تتحرك فقط مع الاحداث الرياضية
المهمة او السياسية ، وبما ان الكل يعلم ان نسبة القراءة في السودان في
حالة تدهور مريع ، اذ لم تعد تلك المقولة المعروفة ( القاهرة تكتب وبيروت
تطبع والخرطوم تقرأ ) لم تعد قيد الاستخدام في هذه الايام ، فالامر في غاية
الخطورة ، وكما تشير بعض الدراسات ان اغلب جيل الشباب في سن 25 لا يقرأون
، وأن هم قرأوا لا يتجاوز خياراتهم سقف اخبار المغنيين والفنانيين
والرياضة ، ولكن بالنسبة للقرأءة العميقة وقراءة المقالات لا وجود لهم فيها
، كما ان الغزو المتصاعد الذي تشنه وسائل التكنولوجيا الحديثة ، وعالم
الانترنت على الصحف منذ مدة ، سحب الشباب من القراءة عموما ، هذه بعض
الهموم التي تواجه المؤسسات الصحفية و شركات التوزيع في السودان ، فهل لنا
بأستشراف جيل جديد ، وقراء باحثين عن المعرفة وشغوفين بالعلم والتعليم ،
لننتظر ، ربما تأتي الاجابة في يوما ما .
0 comments:
إرسال تعليق